فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{الذين كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} وعيد لمن أجاب دعاءه ووعد لمن خالفه وقطع للأماني الفارغة، وبناء للأمر كله على الإِيمان والعمل الصالح وقوله: {أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَنًا} تقرير له أي أفمن زين له سوء عمله بأن غلب وهمه وهواه على عقله حتى انتكس رأيه فرأى الباطل حقًا والقبيح حسنًا، كمن لم يزين له بل وفق حتى عرف الحق واستحسن الأعمال واستقبحها على ما هي عليه، فحذف الجواب لدلالة: {فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ} وقيل تقديره أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرة، فحذف الجواب لدلالة: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات} عليه ومعناه فلا تهلك نفسك عليهم للحسرات على غيهم وإصرارهم على التكذيب، والفاءات الثلاث للسببية غير أن الأوليين دخلتا على السبب والثالثة دخلت على المسبب، وجمع الحسرات للدلالة على تضاعف اغتمامه على أحوالهم أو كثرة مساوي أفعالهم المقتضية للتأسف، وعليهم ليس صلة لها لأن صلة المصدر لا تتقدمه بل صلة تذهب أو بيان للمتحسر عليه.
{إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} فيجازيهم عليه.
{والله الذي أَرْسَلَ الرياح} وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي الريح.
{فَتُثِيرُ سحابا} على حكاية الحال الماضية استحضارًا لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال الحكمة، ولأن المراد بيان أحداثها بهذه الخاصية ولذلك أسنده إليها، ويجوز أن يكون اختلاف الأفعال للدلالة على استمرار الأمر.
{فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيّتٍ} وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص بالتشديد.
{فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض} بالمطر النازل منه وذكر السحاب كذكره، أو بالسحاب فإنه سبب السبب أو الصائر مطرًا.
{بَعْدَ مَوْتِهَا} بعد يبسها والعدول فيهما من الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص لما فيهما من مزيد الصنع.
{كَذَلِكَ النشور} أي مثل إحياء الموات نشور الأموات في صحة المقدورية، إذ ليس بينهما إلا احتمال اختلاف المادة في المقيس عليه وذلك لا مدخل له فيها. وقيل في كيفية الإِحياء فإنه تعالى يرسل ماء من تحت العرش تنبت منه أجساد الخلق.
{مَن كَانَ يُرِيدُ العزة} الشرف والمنعة.
{فَلِلَّهِ العزة جَمِيعًا} أي فليطلبها من عنده فإن له كلها، فاستغنى بالدليل عن المدلول.
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} بيان لما يطلب به العزة وهو التوحيد والعمل الصالح، وصعودهما إليه مجاز عن قبوله إياهما، أو صعود الكتبة بصحيفتهما، والمستكن في {يَرْفَعُهُ} ل {الكلم} فإن العمل لا يقبل إلا بالتوحيد ويؤيده أنه نصب {العمل}، أو ل {العمل} فإنه يحقق الإِيمان ويقويه، أو لله وتخصيص العمل بهذا الشرف لما فيه من الكلفة. وقرىء {يَصْعَدُ} على البناءين والمصعد هو الله تعالى أو المتكلم به أو الملك.
وقيل {الكلم الطيب} يتناول الذكر والدعاء وقراءة القرآن. وعنه عليه الصلاة والسلام «هو سبحان الله والحمد لله ولا إله لا الله والله أكبر، فإذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن، فإذا لم يكن عمل صالح لم تقبل».
{والذين يَمْكُرُونَ} المكرات السيئات يعني مكرات قريش للنبي عليه الصلاة والسلام في دار الندوة وتداورهم الرأي في إحدى ثلاث حبسه وقتله وإجلائه.
{لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} لا يؤبه دونه بما يمكرون به.
{وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} يفسد ولا ينفذ لأن الأمور مقدرة لا تتغير به كما دل عليه بقوله: {والله خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ} بخلق آدم عليه السلام منه.
{ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} بخلق ذريته منها.
{ثُمَّ جَعَلَكُمْ أزواجا} ذكرانًا وإناثًا.
{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} إلاَّ معلومة له.
{وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ} وما يمد في عمر من مصيره إلى الكبر.
{وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} من عمر المعمر لغيره بأن يعطى له عمر ناقص من عمره، أو لا ينقص من عمر المنقوص عمره بجعله ناقصًا، والضمير له وإن لم يذكر لدلالة مقابله عليه أو للعمر على التسامح فيه ثقة بفهم السامع كقولهم: لا يثيب الله عبدًا ولا يعاقبه إلا بحق. وقيل الزيادة والنقصان في عمر واحد باعتبار أسباب مختلفة أثبتت في اللوح مثل: أن يكون فيه إن حج عمرو فعمره ستون سنة وإلا فأربعون. وقيل المراد بالنقصان ما يمر من عمره وينقضي فإنه يكتب في صحيفة عمره يومًا فيومًا، وعن يعقوب {وَلاَ يُنقَصُ} على البناء للفاعل.
{إِلاَّ في كتاب} هو علم الله تعالى أو اللوح المحفوظ أو الصحيفة.
{إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ} إشارة إلى الحفظ أو الزيادة أو النقص.
{وَمَا يَسْتَوِى البحران هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} ضرب مثل للمؤمن والكافر، والفرات الذي يكسر العطش والسائغ الذي يسهل انحداره، والأجاج الذي يحرق بملوحته. وقرىء {سيغ} بالتشديد و{سيغ} بالتخفيف و{مِلْحٌ} على فعل.
{وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} استطراد في صفة البحرين وما فيهما من النعم، أو تمام التمثيل والمعنى: كما أنهما وإن اشتركا في بعض الفوائد لا يتساويان من حيث إنهما لا يتساويان فيما هو المقصود بالذات من الماء، فإنه خالط أحدهما ما أفسده وغيره عن كمال فطرته، لا يتساوى المؤمن والكافر وإن اتفق اشتراكهما في بعض الصفات كالشجاعة والسخاوة لاختلافهما فيما هو الخاصية العظمى وهي بقاء أحدهما على الفطرة الأصلية دون الآخر، أو تفضيل للأجاج على الكافر بما يشارك فيه العذب من المنافع. والمراد ب {الحلية} اللآلىء واليواقيت.
{وَتَرَى الفلك فِيهِ} في كل.
{مَوَاخِرَ} تشق الماء بجريها.
{لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} من فضل الله بالنقلة فيها، واللام متعلقة ب {مَوَاخِرَ}، ويجوز أن تتعلق بما دل عليه الأفعال المذكورة.
{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} على ذلك وحرف الترجي باعتبار ما يقتضيه ظاهر الحال.
{يُولِجُ اليل في النهار وَيُولِجُ النهار في اليل وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} هي مدة دوره أو منتهاه أو يوم القيامة.
{ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك} الإِشارة إلى الفاعل لهذه الأشياء. وفيها إشعار بأن فاعليته لها موجبة لثبوت الأخبار المترادفة، ويحتمل أن يكون {لَهُ الملك} كلامًا مبتدأ في قرآن.
{والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} للدلالة على تفرده بالألوهية والربوبية، والقطمير لفافة النواة.
{إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءَكُمْ} لأنهم جماد {وَلَوْ سَمِعُواْ} على سبيل الفرض.
{مَا استجابوا لَكُمْ} لعدم قدرتهم على الإِنفاع، أو لتبرئهم منكم مما تدعون لهم.
{وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} بإشراككم لهم يقرون ببطلانه أو يقولون {مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} {وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} ولا يخبرك بالأمر مخبر {مِثْلُ خَبِيرٍ} به أخبرك وهو الله سبحانه وتعالى، فإنه الخبير به على الحقيقة دون سائر المخبرين. والمراد تحقيق ما أخبر به من حال آلهتهم ونفي ما يدعون لهم. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

سورة فاطر:
مكية.
هي ست وأربعون آية.
وسبعمائة وسبعة وتسعون كلمة.
وثلاثة آلاف ومائة وثلاثون حرفًا.
وهي ختام السور المفتتحة باسم الحمد التي فصلت فيها النعم الأربع التي هي أمهات النعم المجموعة في الفاتحة وهي: الإيجاد الأول، ثم الإبقاء الأول، ثم الإيجاد الثاني المشار إليه بسورة سبأ، ثم الإبقاء الثاني الذي هو أنهاها وأحكمها وهو الختام المشار إليه بهذه السورة المفتتحة بالابتداء الدال عليه بإنهاء القدرة وأحكمها المفصل أمره فيها في فريقي السعادة والشقاوة تفصيلًا شافيًا على أنه استوفى في هذه السورة النعم الأربع كما يأتي بيانه في محله.
{بسم الله} الذي أحاطت دائرة قدرته بالممكنات {الرحمن} الذي عم الخلق بعموم الرحمة {الرحيم} الذي شرف أهل الكرامة بدوام المراقبة.
ولما أثبت سبحانه في التي قبلها الحشر الذي هو الإيجاد الثاني، وكان الحمد يكون بالمنع والإعدام كما يكون بالإعطاء والإنعام قال تعالى ما هو نتيجة ذلك: {الحمد} أي: الإحاطة بأوصاف الكمال إعدامًا وإيجادًا {لله} أي: وحده.
ولما كان الإيجاد من العدم أدل دليل على ذلك قال تعالى دالًا على استحقاقه للمحامد: {فاطر السموات والأرض} أي: خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق قاله ابن عباس، أو شاقهما لنزول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض، وعن مجاهد عن ابن عباس ما كنت أدري ما فاطر السموات والأرض حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها أي: ابتدأتها.
تنبيه:
إن جعلت إضافة فاطر محضة كان نعتًا، وإن جعلتها غير محضة كان بدلًا وهو قليل من حيث إنه مشتق.
ولما كانت الملائكة عليهم السلام مثل الخافقين في أن كلا منهم مبدع من العدم على غير مثال سبق من غير مادة وكان لا طريق لعامة الناس إلى معرفتهم إلا الخبر أخبر عنهم بعدما أخبر عما طريقه المشاهدة بقوله تعالى: {جاعل الملائكة رسلًا} أي: وسائط بين الله وبين أنبيائه والصالحين من عباده يبلغون رسالته بالوحي والإلهام والرؤية الصادقة، أو بينه وبين خلقه يوصلون إليهم آثار صنعه {أولي} أي: أصحاب {أجنحة} يهيئهم لما يراد منهم، ثم وصفها بقوله تعالى: {مثنى} أي: جناحين لكل واحد من صنف منهم {وثلاث} أي: ثلاثة ثلاثة لصنف آخر منهم {ورباع} أي: أربعة أربعة لصنف آخر منهم، فهم متفاوتون بتفاوت ما لهم من المراتب ينزلون بها ويعرجون ويسرعون بها نحو ما وكلهم الله تعالى عليه فيتصرفون فيه على ما أمرهم به، وإنما لم تصرف هذه الصفات لتكرر العدل فيها، وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الأعداد من صيغ إلى صيغ آخر كما عدل عمر عن عامر، وحذام عن حاذمة.
{يزيد في الخلق ما يشاء} أي: يزيد في خلق الأجنحة وفي غيره ما تقتضيه مشيئته، والأصل: الجناحان؛ لأنهما بمنزلة اليدين، ثم الثالث والرابع زيادة على الأصل وذلك أقوى للطيران وأعون عليه، فإن قيل: قياس الشفع من الأجنحة أن يكون في كل شق نصفه فما صورة الثلاثة؟
أجيب: بأن الثالث لعله يكون في وسط الظهر بين الجناحين يمدّهما بقوة. أو لعله لغير الطيران، قال الزمخشري: فقد مرّ بي في بعض الكتب أن صنفًا من الملائكة لهم ستة أجنحة فجناحان يلفون بهما أجسادهم، وجناحان يطيرون بهما في الأمر من أمور الله تعالى، وجناحان مرخيان على وجوههم حياء من الله تعالى انتهى.
وروى ابن ماجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت جبريل عند سدرة المنتهى وله ستمائة جناح ينثر من رأسه الدر والياقوت»، وروي أنه عليه السلام: «سأل جبريل أن يتراءى في صورته فقال: إنك لن تطيق ذلك فقال: إني أحب أن تفعل فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مقمرة فأتاه جبريل في صورته فغشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أفاق وجبريل عليه السلام مسنده، وإحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه فقال: سبحان الله ما كنت أرى أن شيئًا من الخلق هكذا فقال جبريل: فكيف لو رأيت إسرافيل عليه السلام له اثنا عشر ألف جناح جناح منها بالمشرق، وجناح بالمغرب وإن العرش على كاهله وإنه ليتضاءل الأحايين لعظمة الله تعالى حتى يعود مثل الوصع، وهو العصفور الصغير».
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {يزيد في الخلق ما يشاء} وهو الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن، وقيل: هو الخط الحسن، وعن قتادة: الملاحة في العينين، والآية كما قال الزمخشري: مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق من طول قامة واعتدال صورة وتمام في الأعضاء وقوة في البطش، ومتانة في العقل وجزالة في الرأي وجراءة في القلب وسماحة في النفس، وذلاقة في اللسان، ولباقة في التكلم وحسن تأنَ في مزاولة الأمور وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف.
ثم علَّل تعالى ذلك كله بقوله مؤكدًا لأجل إنكارهم البعث {إن الله} أي: الجامع لجميع أوصاف الكمال {على كل شيء قدير} وتخصيص بعض الأشياء دون بعض إنما هو من جهة الإرادة، قال أبو جعفر بن الزبير: لما أوضحت سورة سبأ أنه سبحانه مالك السموات والأرض ومستحق الحمد في الدنيا والآخرة أوضحت هذه السورة أن ذلك خلقه كما هو ملكه، وأنه الأهل للحمد والمستحق إذ الكل خلقه وملكه، وتجردت سورة سبأ لتعريف العباد بعظيم ملكه سبحانه وتجردت هذه للتعريف بالاختراع والخلق.
ولما وصف سبحانه نفسه المقدسة بالقدرة الكاملة دلَّ على ذلك بما يشاهده كل أحد في نفسه من السعة والضيق مع العجز عن دفع شيء من ذلك أو اقتناصه، وقال مستأنفًا أو معللًا مستنتجًا:
{ما} أي: مهما فهي شرطية {يفتح الله} أي: الذي لا يكافئه شيء {للناس} لأن كل ما في الوجود لأجلهم {من رحمة} أي: من الأرزاق الحسية والمعنوية، من اللطائف والمعارف التي لا تدخل تحت حصر قلّت أو كثرت فيرسلها {فلا ممسك لها} أي: الرحمة بعد فتحه كما يعلمه كل أحد من نفسه من أنه إذا حصل له خير لا يعدمه من يود أنه لم يحصل، ولو قدر على إزالته لأزاله ولا يقدر على تأثير ما فيه {وما يمسك فلا مرسل له} يطلقه، واختلاف الضميرين، لأن الموصول الأول مفسر بالرحمة، والثاني مطلق يتناولها والغضب وفي ذلك إشعار بأن رحمته سبقت غضبه.
ولما كان ربما ادعى أحد فجورًا حال إمساك الرحمة أو النعمة أنه هو الممسك قال تعالى: {من بعده} أي: إمساكه وإرساله {وهو} أي: هو فاعل ذلك، والحال أنه هو وحده {العزيز} أي: القادر على الإمساك والإرسال الغالب على كل شيء، ولا غالب له {الحكيم} أي: الذي يفعل في كل من الإمساك والإرسال وغيرهما ما يقتضيه علمه به ويتقن ما أراده على قوانين الحكمة فلا يستطاع نقض شيء منه.
ولما بيَّن بما يشاهده كل أحد في نفسه أنه المنعم وحده أمر بذكر نعمته بالاعتراف أنها منه، فإن الذكر يعود إلى الشكر وهو قيد الموجود وصيد المعدوم المفقود قال: {يا أيها الناس} أي: الجميع؛ لأن جميعهم مغمورون في نعمة الله تعالى، وعن ابن عباس يريد يا أهل مكة {اذكروا} بالقلب واللسان {نعمت الله} أي: الذي لا منعم في الحقيقة سواه {عليكم} أي: في دفع ما دفع عنكم من المحن وصنع ما صنع لكم من المنن لتشكروه ولا تكفروه.
تنبيه:
{نعمت} هنا مجرورة في الرسم وقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء، والباقون بالتاء، وإذا وقف الكسائي أمال الهاء.
ولما أمر بذكر نعمته أكد التعريف بأنها منه وحده على وجه بين عزته وحكمته بقوله تعالى منبهًا لمن غفل موبخًا لمن جحد ورادًَّا على أهل القدر الذين يدعون أنهم يخلقون أفعالهم ومنبهًا على نعمة الإيجاد الأول {هل من خالق} أي: للنعم وغيرها {غير الله} أي: فليس لغيره في ذلك مدخل يستحق أن يشرك به، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الراء نعتًا لخالق على اللفظ ومن خالق مبتدأ مزاد فيه من، والباقون بالرفع وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه خبر المبتدأ، والثاني: أنه صفة لخالق على الموضع والخبر إما محذوف وإما يرزقكم. والثالث: أنه مرفوع باسم الفاعل على جهة الفاعلية؛ لأن اسم الفاعل قد اعتمد على أداة الاستفهام.